بلال بن رباح رضي اللّه عنه

abo_hafs الخميس فبراير 28, 2008 8:29 am

نسبه وبعض صفاته

هو بلال بن رباح رضي اللّه عنه، وأمه حمامة، أصله من الحبشة، وُلِد بمكة قبل البعثة النبوية بثلاثين سنة، وقضت ظروفه أن يكون عبداً رقيقا لأميَّة بن خلف القرشي، يسعى في خدمته وشــــؤونه، ثم اشتراه أبو بكر وأعــــتقه حراً لوجه اللّه تعالى.

كان أسمر اللون، نحيف الجسم، نديَّ الصوت، طاهر القلب، سليم الطويَّة، صبوراً، شكوراً، صادقاً، أميناً، إدارياً، حازماً، شجاعاً، يعفو ويصفح، ويقبل عذر من اعتذر إليه.

إسلام بلال وصبره

ســـــمع بلال بالنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو يـــــدعو إلى الإسلام، ويعرض فضائله ومكارمه، فارتاح إلى كلامه وأُعجب به، وسارع إلى الدخول في هذا الدين الجـــــديد في وقــت مبكر من تــــاريخ الإسلام، حتى قيل: بدأ الإســلام بــــرجل وامــــرأة وصـــــبي وعــبد، وكان الرجـــــلُ أبا بكر، والمرأةُ خـــديجـــة، والصبيُّ علياً، والعـــبدُ بـــــلالاً. لكن ســــيدَه ومالكَه أمية بن خلف - الذي كان يخــــالفه في العقـيدة - رفـــض ذلك، وأراد أن تــكون له الســـلطة والسيادة على فكر بــــلال وعقـــله وقـــلبه، كما هو الحال على جســده وحريته.

وقام بإخضاع بلال لأشد أنواع الأذى والعذاب لعله يرجع عن دينه، وقـــابله بلال بالصلابة والصراحة والثبات، وزاد أمية في تعذيبه وبــلائه، فرماه مكبَّـــلاً ممـــدَّداً فوق الرمال اللافحة، وفــــوقه الصخور اللاهبة، تنهال عليه ضــربات الســـياط في وســط النــهار الحــار في بطحاء مكة، فكــان بلال لا يزيــد على أن يـــردِّد: أَحَدٌ، أَحَدٌ.

وأطال أميةالعذاب والأذى على بلال، وصار يُلبسه درعاً من حديد ليُنكِّل بــه، ويحرق جسمه في حرِّ النهار، وما يزيد بلالٌ على أن يقول: أحد، أحد.

وجاء أبو بكر رضي اللّه عنه إلى أمية يفاوضه في شراء بلال، فطلب أمية الكثير من المال، فأجابه أبو بكر إلى ذلك، لكنَّ أمية تراجع عن البيع وغالى في الثمن، فأعطاه أبو بكر ما يريد، ثم صحب معه بلالاً وأشهد الناس في مكة على إعتاقه حراً طليقاً لوجه اللّه تعالى، وفي ذلك نزلت الآية القرآنية: {وما لأحد عنده من نعمة تُجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} "الليل: 21". وصار بلال يتردَّد على النبي صلى اللّه عليه وسلم ويجالسه في أي وقت يشاء، بعد أن كان ممنوعاً من ذلك.

مسؤوليات بلال بعد الهجرة

دعا الإسلام إلى المساواة بين الناس على اختلاف أجناسهم وأصنافهم وألوانهم، لا فرق بين عربيِّهم وعجميِّهم، ولا بين فقيرهم وغنيهم، ولا بين حسيبهم وسوقتهم، وعمل على جعل معيار التفاضل بين الناس جميعاً: تقوى اللّه تعالى وما يبذله الفرد للمجتمع من جهد نافع بناء ينفع الناس ويســـعدهم: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثـــى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عنــــد اللّه أتقــــاكم إن اللّه عليم خبير} "الحجرات: 13".

ومن هذا المنطلق قام النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بإسناد وظائف عديدة إلى بلال نظراً لما لمس منه من كفاءة، وأمانة، وتضحية، واقتدار، وأعظم هذه الوظائف أنه جعله أميناً على الأذان، ذلك النداء العُلْوِي الذي يتكرر في اليوم خمــس مرات، يعلن تعظـــيم اللّه تعالى وتمجــيده، ويجمع الناس لأداء الصــلاة التي هي أعظم العبادات في الإسلام، بما تتضمنه من تآلف وطاعة ووحــــدة كلمة، وطهر نفسي وانضباط اجتماعي.

وقام بلال - أول مؤذن في الإسلام - بهذه المسؤولية خير قيام، مع نداوة صوتٍ، وحلاوة حسٍّ، وعذوبة كلمات، واستمر كذلك أميناً على الأذان النبوي - مع آخرين من الصحابة- حتى وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم.

كما أسند النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بلال مسؤوليات أخرى ومن ذلك: تولي نصب خيمته صلى اللّه عليه وسلم، والإشـــراف على أمور نفقة البيت النبوي، وجباية الصدقات، ورعاية الغــــنائم والقيام على حفـــظها، وتقــديم الهدايا والأعطيات للوفود والزائرين، والإشراف على إطعام الجيش في السفر.

رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم بلالاً يوما فقال: (السُبَّاق أربعة: أنا سابقُ العرب، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم). رواه البزَّار.

كان بلال في هذا السياق بالمحل الأول والموضع الأسمى الذي لا يُجهل، فصار مضرب المثل عبر الأجيال، وظلَّ اسمه يتردد على كل لسان في تاريخ الإسلام، وهو أساساً من غير العرب، بل من العبيد الأرقاء، وهكذا يفعل الإسلام بالعاملين المخلصين، بغضِّ النـــظر عن أنســابهم وأعراقهم وطبقاتهم الاجتماعية.

موقف للتاريخ

تذكر الروايات التاريخية: أنه حدث خلاف بين أبي ذر الغفاري العربي الأرومة، وبلال بن رباح الحبشي الأصل الذي كان عبداً رقيقاً، فقام أبو ذر يُعيِّر بلالاً بأمِّه "حمامة" السوداء الحبشية ويقول له: يا ابن السوداء، وفكَّر بلال فيما سمع، وقدَّر أنَّ هذا جرم خطير لا ينبغي السكوت عليه؛ مخافة أن يستشري بين أفراد المجتمع الواحد، فيمزِّق الصف الداخلي، ويدمِّر السلِم الاجتــــماعي، ويحرق الأخضـر واليابس، لكنه لم يَردَّ على أبي ذر، بل عمد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم صاحب الشأن والقرار، ليعالج هذا الخطر ويقـــتلعه من جـذوره، وذكر له ما قاله أبو ذر.

وطلب النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبي ذرالحضور إليه، ولما تأكد له ما فعله خاطبه معنِّفاً: (أعيَّرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية) أي: عنصرية بغيضة. ثم أوضح له ذلك المعنى الخالد بما يشرح صدر كل إنسان ويزيده إعجاباً بالإسلام: (إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمْه مما يأكل وليُلبسْه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفــتموهم فأعينوهم). رواه الشيخان.

فلما سمع أبو ذر العربي هذا الكلام النبوي تأثَّر به أيّما تأثُّر، وندم على ما فعل، وألقى بنفسه على الأرض، ووضَع خدَّه عليها، وطلب من بلال -الذي كان عبداً حبشياً- أن يَطأَ خدَّه الآخر بقدمه، معتذراً إليه عمَّا فعل، رادّاً إليه اعتــباره الاجتماعي أمام الناس، لكنَّ بلالاً أبى ذلك، وأمسك بيد أبي ذر يرفعــه إليه قائلاً: غفر اللّه لك يا أخي.

وهكذا دفن الإسلام العنصرية والتعاظم على الآخرين، وجعل الناس إخوة متحابين، أقربهم إلى اللّه أتقاهم وأنفعهم لعباده.

واستمر بلال يلازم النبي صلى اللّه عليه وسلم في حضره وسفره وجميع رحلاته، وشهد معه عامة تنقلاته وأسفاره، ناشراً للإسلام ومدافعاً عنه وداعياً إليه وحامياً لأهله، في بدر، وأحد، والخنـــدق، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وغيرها من المشاهد، وكانت له فيـــها مواقف شجاعة ونبيـــلة، قــرَّت بها عيون النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه.

مشاركته في نشر الإسلام

في بلاد الشام

بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم وتولِّي أبي بكر الخلافة، رأى بلال أن تكون له مشاركة في إيصال الإسلام إلى بلاد الشام وتبليغه للناس، فجاء إلى أبي بكر مستأذناً في أن يخرج مع الدعاة المجاهدين في جيش أبي عبيدة، فأراد أبو بكر أن يستبقيه إلى جانبه، فقـال له: يا أبا ذكر، إن كنتَ أعتقتني لنفسك فاستبقني عندك، وإن كنت أعتقتني للّه فدعني أخرج في سبيل اللّه، فأذن له أبو بكر فخرج - وقد جاوز الستين - مع أبي عبيدة، وكان له خير عضد ونعم المعين.

شارك بلال في نشر الإسلام والدعوة إليه والتعريف به في بلاد الشام، فطاف فلسطين، ثم قصد دمشق واستقر بها فترة، ثم رحل إلى حلب وأقام بها، ثم عاد إلى دمشق عازفاً عن الدنيا وما فيها، يروي الأحاديث التي سمعها من النبي صلى اللّه عليه وسلم ويعلِّم النــــاس أينما حلَّ وارتحل.

وجاءه مرة بعض أصحابه يلتمسون منه الأذان للصلاة، فتمنع عليهم، فألحُّوا عليه لعلَّهم يجدِّدون ذكريات أيام النبوة، وما فيها من صفاء وحلاوة إيمان، فأجابهم إلى طلبهم، وقام يؤذن بهم، فلما بلغ: أشهد أنَّ محمداً رسول اللّه، خنقته العَبْــرة وغلبه البكاء، فلم يستطع أن يكمل الأذان.

وفاته رضي اللّه عنه

استمر بلال يقيم في دمشق حتى داهم المسلمين في تلك الديار مرضٌ عُرِف بطاعون عمواس، نسبة إلى البلد التي استفحل فيها وانتشر، وذلك في خلافة عمر رضي اللّه عنه، وكان بلال ممن أصيب بهذا المرض، وكان كلما اشتد عليه الوجع قالت له زوجته: واكرْباه، فيقول لها: بل واطَرَباه، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه، ثم توفي رضي اللّه عنه وقد جاوز السبعين من عمره، وقيل: مرض في حلب ودفن فيها.

وبعد: فهذا هو الإسلام في بعض رجاله الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه وهذه سيرة هذا الصحابي الهُمَام المؤمن، الصابر المحتسب، القدوة، الذي نال ثقة النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمل على بناء مجتمعه وتنميته، وشارك في إدارة مؤسساته ومرافقه بكفاءة وصدق وجديَّة، ولعل هذه السيرة تنهـــض بالهمم، وتكون حافزاً لنا اليوم، نحو مزيـــد من البــذل والتضحية، والجـــد والمثــابرة، وتحمل المسؤوليات، التي تعمر الأوطـــــان، وترقى بالمجتمعات إلى المجد والازدهار